التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1533م أخرج السلطان سليمان القانوني جيشًا عظيمًا يُقَدَّر بمائةٍ وأربعين ألف جنديٍّ بقيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا إلى حرب الدولة الصفوية.
التفرُّغ لمشكلات الأعداء الآخرين غير النمسا: الصفويون وغيرهم (1533-1540م)
هدأت الجبهة النمساوية المجرية إلى أجل، وعلى الرغم من إدراك السلطان سليمان القانوني احتمال غدر الأوروبيين في أيِّ لحظة، فإنه كان مطمئنًّا إلى أن هذا لو حدث فلن يكون إلا بعد عدَّة سنوات؛ نظرًا إلى شدَّة إقبالهم على توقيع المعاهدة معه، ولظروفهم السياسية الداخلية التي يعرفها العثمانيون جيدًّا. هذه الثقة أعطت الدولة العثمانية الفرصة لفتح ملفَّاتٍ كبرى مؤجَّلة، ويمكن مناقشة هذه الملفَّات تحت العناوين التالية:
الصدام مع الدولة الصفوية، وغزو تبريز، وضمُّ العراق: (1533-1535م)
كانت منطقتا العراق والخليج العربي تُعانيان في هذه المرحلة التاريخيَّة من وطأة عدوَّين شرسين في آنٍ واحد؛ الدولة الصفوية، ودولة البرتغال. كانت البرتغال قد احتلَّت ميناء هرمز في مدخل الخليج العربي في عام 1515م، واحتلَّت البحرين وقطر عام 1521م[1]، وصارت بذلك القوَّة المهيمنة على التجارة في هذا الخليج المهم، الذي يُسيطر على التجارة الوسيطة بين آسيا وأوروبا.
لم يكن أمام التجار والشعوب في هذه المناطق إلا أن تدفع المكوس الباهظة إلى الحامية العسكرية البرتغالية. زادت المشقَّة على الناس في العراق والخليج العربي باحتلال الدولة الصفوية لبغداد في 1530م، وكان الصفويون متعاونين مع البرتغاليين منذ نشأة الدولة الصفوية[2]. كان الضغط كبيرًا على المسلمين في هذه المناطق سواءٌ من الناحية السياسية، والاقتصادية، والأمنية، أم من الناحية الفكرية، والعقائدية؛ ولذلك كانت هذه الشعوب المسلمة تنظر إلى الدولة العثمانية على أنها الأمل الوحيد الذي يمكن أن يُنقذهم من هذه الآلام.
استراح السلطان سليمان القانوني مؤقَّتًا من هموم الجبهة الأوروبية بمعاهدة إسطنبول في 22 يونيو 1533م، وبعدها بأقلَّ من ثلاثة شهور، في سبتمبر من السنة نفسها، أخرج جيشًا عظيمًا يُقَدَّر بمائةٍ وأربعين ألف جنديٍّ بقيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا إلى حرب الدولة الصفوية. قبل حلول الشتاء استعاد هذا الجيش الكبير بيتليس، وكلَّ المناطق الواقعة بين أرضروم وبحيرة ڤان Van في شرق الأناضول[3]، وبذلك يكون قد أعاد الوضع إلى ما هو عليه قبل التعدِّي الصفوي الأخير. قضى الجيش العثماني الشتاء في شرق الأناضول، وفي ربيع 1534م تابَع التقدُّم عبر الحدود العثمانية الصفوية ليخترق إيران فاتحًا كلَّ ما في طريقه من مدنٍ وقلاعٍ حتى وصل إلى تبريز العاصمة! اختار الشاه طهماسب الأول سياسة عدم المواجهة فانسحب بجيشه من المدينة المهمَّة، فدخلها إبراهيم باشا دون قتال في 13 يوليو 1534م[4].
لحق السلطان سليمان القانوني جيشَه في تبريز على رأس الحملة الهمايونيَّة السادسة، ومكث في عاصمة الصفويين فترةً قصيرةً يُنظِّم أمورها الداخلية، ثم عزم على مطاردة الشاه في داخل إيران، فتحرَّك في أكتوبر 1534م إلى زانچان Zanjan على بُعد مائتين وخمسين كيلو مترًا إلى الجنوب الشرقي من تبريز؛ بل توغَّل أكثر إلى مدينة سلطانية في الشرق؛ لكن الشاه كان مُصِرًّا على الانسحاب المستمر. أدرك السلطان أن عملية المطاردة غير ذات جدوى، خاصَّةً مع أحوال الطقس السيئة في هذا التوقيت من السنة؛ ولذلك قفل راجعًا إلى تبريز، ومنها مباشرةً إلى العراق[5].
توجَّه معظم الجيش العثماني إلى العراق تاركًا حاميةً صغيرةً في تبريز. كان من الواضح أن هدف الحملة ليس إيران، وليس ضمَّ تبريز أو غيرها من مدن المنطقة؛ إنما كان دخول هذه المدن الإيرانية فقط لطرد الشاه بعيدًا عن الأناضول والعراق. كان هدف الحملة الأساس هو ضمُّ العراق؛ ولذلك تحرَّكت الكتلة الرئيسة للجيش إلى هناك. أدرك محمد توركمن الحاكم الصفوي لبغداد أنه لا طاقة له بالجيش العثماني الكبير. هرب الرجل من المدينة ودخلها الصدر الأعظم إبراهيم باشا في 28 نوفمبر 1534م دون مقاومة، وبعد ذلك بيومين دخل السلطان سليمان القانوني بغداد[6]، وسط احتفالاتٍ بهيجةٍ من الشعب العراقي[7]. إنها لحظةٌ خالدةٌ في تاريخ المدينة التي ظلَّت عاصمةً للدولة العباسية خمسة قرون! بدأ العصر الحديث للعراق من هذه السنة، 1534م، حين وضع العثمانيون التقاسيم الجغرافية، والترتيبات الإدارية، والأوضاع الاقتصادية، التي استمرَّت إلى القرن العشرين.
انضمَّت في غضون أسابيع مدينتا النجف وكربلاء. تأسَّست ولاية بغداد لتشمل وسط العراق، ولم تتوغَّل القوات العثمانية في الجنوب، وإن كان أمير البصرة رشيد قد أرسل ولاءه للعثمانيين[8]. أظهر العثمانيون التسامح الديني الذي اشتهروا به في فتوحاتهم. لم يُعاملوا شيعة العراق بالطريقة التي مارسها الشاه إسماعيل الصفوي أو ابنه الشاه طهماسب الأول مع سُنَّة العراق؛ بل على العكس، زار السلطان مراقد علي بن أبي طالب والحسين رضي الله عنهما، كما فعل مع مراقد الإمام أبي حنيفة، والإمام الچيلاني[9]، ولم يُفَرِّق السلطان في تعامله بين أفراد الشعب، إنما كانوا جميعًا سواء أمام القضاء والدولة. هذا ما كان يُعْرَف بالسِلْم العثماني، وكان مُطَبَّقًا في الدولة العثمانية كلِّها، من شرقها إلى غربها.
استغلَّ الشاه بُعْدَ الجيش العثماني عن تبريز (أكثر من خمسمائة كيلو متر) فدخلها في 9 ديسمبر 1534م[10]، وكانت استعادة الصفويين لها متوقَّعة لضعف الحامية العثمانية بها. مكث السلطان سليمان القانوني في بغداد أربعة شهورٍ كاملة يُنظِّم أمورها، وغادرها في أول أبريل 1535م عائدًا إلى إيران ليستخلص تبريز مرَّةً أخرى من يد الشاه[11]. بمجرَّد دخول السلطان سليمان القانوني إلى إيران بادر الشاه باتِّباع سياسته التقليديَّة ضدَّ الجيوش العثمانية، وهي سياسة الأرض المحروقة والهرب المستمر! كان الشاه يُدرك أنه لا قدرة له على مواجهة الجيش العثماني القوي، وكان يُدرك في الوقت نفسه أن العثمانيين لا يستطيعون البقاء كثيرًا في إيران، ولا يستطيعون ترك جيوشٍ كبيرةٍ فيها؛ لكونهم مشغولين في الأساس بالجبهات الأوروبية الواسعة التي يصطدمون فيها مع القوى العالمية الكبرى.
لهذا كان الشاه ينتهج سياسة الهرب المؤقَّت ليحتفظ بقوَّته، وبمجرَّد رجوع الجيش العثماني إلى قواعده يستردُّ الصفويون ما فُقِدَ منهم! دخل سليمان القانوني تبريز بسهولةٍ في 30 يونيو 1535م، وكالعادة خرج بعدها في مطاردة الشاه الذي هرب إلى أصفهان! عاد السلطان إلى تبريز في أغسطس من السنة نفسها، وقضى بها بعض الوقت لتنظيمها. ترك السلطان تبريز إلى شرق الأناضول، وتجوَّل في مدنه المختلفة بجيشه الكبير ليضمن استتباب الأمن في ربوعه؛ بل وصل في تجواله إلى حلب في شمال الشام؛ وذلك في نوفمبر 1535م.
أنهى السلطان سليمان القانوني حملته الطويلة في آخر العام عائدًا إلى إسطنبول بعد أن قضى سنةً وستَّة شهورٍ تقريبًا خارجها، وكالمعتاد عاد الصفويون لاسترداد تبريز بمجرَّد وصول السلطان إلى عاصمته[12]!
كانت هذه الحملة السادسة من الحملات الشهيرة في تاريخ الدولة العثمانية، ومن إنجازات السلطان القانوني المهمَّة؛ لأنها حقَّقت أمرين كبيرين للغاية؛ الأول هو ضمُّ العراق، وهو الوضع الذي سيستمر عدَّة قرون، مع استثناءاتٍ قليلةٍ ضاع فيها الحكم من الدولة العثمانية، والأمر الثاني هو توطيد الحكم في شرق الأناضول بالصورة القويَّة التي رسمت حدود الدولة العثمانية بحسم، إلى درجة أن هذه الحدود تكاد تُعتبر هي حدود تركيا الآن مع إيران وأرمينيا، باستثناء عدم قدرته في هذه الحملة على فتح مدينتي ڤان وقارص المهمَّتين، واللتين بقيتا في يد الصفويين.
إنه على الرغم من هذه الإنجازات المهمَّة فإن الحملة لم تُوقِف الخطر الصفوي، وستظلُّ الحروب مع هذه الدولة لمدَّة قرنين قادمين![13].
[1] Cole, Juan Ricardo: Sacred Space and Holy War: : The Politics, Culture and History of Shi'ite Islam, IB Tauris, 2007 (A).p. 37.
[2] Pearson, M. N.: The Portuguese in India and the Indian Ocean: An Overview of the Sixteenth Century, In: Mathew, Kuzhippalli Skaria; Malekandathil, Pius & Mohammed, Jamal: The Portuguese, Indian Ocean, and European Bridgeheads, 1500-1800, Institute for Research in Social Sciences and Humanities of MESHAR, Kerala, India, 2001., p. 56.
[3] كلو، أندري: سليمان القانوني، ترجمة: البشير بن سلامة، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1991م. الصفحات 153، 154.
[4] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988 الصفحات 1/339، 340.
[5] Hammer, Joseph von: Histoire de L’Empire ottoman (in French), Bellizard, Barthès, Dufour & Lowell, Paris, 1836, vol. 5, pp. 212-214.
[6] أمجان، فريدون: سليمان القانوني سلطان البرين والبحرين، ترجمة: جمال فاروق، أحمد كمال، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 175.
[7] بچوي، إبراهيم أفندي: تاريخ بجوي إبراهيم أفندي: التاريخ السياسي والعسكري للدولة العثمانية، ترجمة وتقديم: ناصر عبد الرحيم حسين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015م.صفحة 1/227.
[8] أوزتونا، 1988 صفحة 1/341.
[9] أمجان، 2014 صفحة 175.
[10] كلو، 1991 صفحة 158.
[11] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م، صفحة 223.
[12] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/342، 343.
[13] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 445- 449.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك